فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {إِنَّ يوم الفصل كَانَ ميقاتا}
شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متَى هذا الوعدُ إنْ كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعِه وما سيلقونَهُ عند ذلكَ من فنونِ العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً، أي إنَّ يوم فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل: حدا توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حدًّا للخلائقِ ينتهونَ إليهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الأُولى.
وقوله تعالى: {يوم يُنفَخُ فِي الصور} أي نفخةً ثانيةً بدل من {يوم الفصلِ} أو عطف بيانٍ له مقيدٍ لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه، و{الصُّور} هُو القرنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السلام. عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا فرغَ الله تعالى من خلقِ السمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضعُه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمرُ بالنفخِ فيهِ فيؤمرُ بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ من شاءَ الله. وذلكَ قوله تعالى: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} ثم يُؤمرُ بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعثَ وقامَ وذلكَ قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}» والفاءُ في قوله تعالى: {فَتَأْتُونَ} فصيحةٌ تفصحُ عن جملة قد حُذفتْ ثقةً بدلالة الحالِ عليَها وإيذاناً بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلاً {أَفْوَاجاً} أمماً كلُّ أمةٍ معَ أمامها كما في قوله تعالى: {يوم نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها. عن معاذٍ رضيَ الله عنِهُ أنَّه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصَّلاةُ والسلام: «يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ» ثم أرسلَ عينيهِ وقال: «تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ وبكمٌ وبعضُهمة يمضعونَ ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذينَ على صورة الخنازيره فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ والبكمُ فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ».
{وَفُتِحَتِ السماء} عطف على {ينفخُ}، وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ. وقرئ {فُتِّحتْ} بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقوله تعالى: {فَكَانَتْ أبوابا} أي كثُرتْ أبوابُها المفتحةُ لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقوله تعالى: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام} وهو الغمامُ والذي ذُكرَ في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} أي أمرُه وبأسُه في ظلٍ من الغمامِ والملائكةِ وقيلَ: الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشطُ فينفتحُ مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ.
{وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الجوِّ على هيئاتِها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعربُ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أي تراها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرياحُ سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لاسيما من بعيدٍ وعليهِ قول مَنْ قال:
بأرعنَ مثلِ الطودِ تحسبُ أنَّهم ** وقوفٌ لحاجٍ والركابُ تهملجُ

وقد أُدمجَ في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحال السحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطقُ به قوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى: {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء} أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وإنْ اندكتْ وانصدعتْ عند النفخةِ الأُولى لكن تسييرُها وتسويةُ الأرضِ إنما يكونانِ بعد النفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يومئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقوله تعالى: {يوم تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ ابتاعَ الدَّاعِي الذي هو إسرافيلُ عليه السلام وبرزُوا لخلق الله تعالى لا يكونُ إلا بعد النفخةِ الثانيةِ.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليوم إثرَ بيانِ هولِه، ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان. والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها.
{للطاغين} متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لـ: {مرصاداً} أي كائنا للطاغينَ وقوله تعالى: {مَئَاباً} بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ {مآبا} قُدمتْ عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ {مآبا} على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة.
ولا يخفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ: إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآبٌ للطاغين وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد، والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ.
وقرئ {أنَّ} بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ.
{لابثين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقرئ {لبثينَ}.
وقوله تعالى: {أَحْقَاباً} ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ.
وقوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} جملة مبتدأة أخبرَ عنُهم بأنَّهم لا يذقونَ فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حرَّ النَّارِ ولا من شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً، وقيلَ: البردُ النومُ وقرئ {غَسَاقاً} بالتخفيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم {جَزَاء} أي جُوزوا بذلكَ جزاءً {وفاقا} ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً، وقرئ {وَفَاقاً} على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالِهم {وَكَذَّبُواْ بآياتنا} الناطقةِ بذلكَ {كِذَّاباً} أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاءِ وقرئ بالتخفيف وهو مصدرُ كذبَ قال:
فَصدَقتُها وَكذَبتُها ** والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه

وانتصابه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمنه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ. وقرئ {كُذَّاباً} وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذَّبوا أي تكذيباً كذباً مُفرطاً كذبُه {وَكُلَّ شيْء} من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم. وانتصابه بمضمرٍ يفسرُه {أحصيناه} أي حفظناهُ وضبطناهُ. وقرئ بالرفعِ على الابتداءِ {كتابا} مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ، والجملة اعتراضٌ.
وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ، وفي الالتفاتِ المنبئِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيلِ ما لا يدخلُ تحتَ الصحةِ من الدلالةِ على تبالغِ الغضبِ ما لا يخفى.
وقد رُويَ عنِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآن على أهلِ النَّارِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ يوم الفصل كَانَ ميقاتا}
شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48] ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالاً وقال بعض الأجلة أنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل إن إلخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي أن يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتاً وميعاداً لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدًّا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأياً ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه.
{يوم يُنفَخُ في الصور} أي النفخة الثانية ويوم بدل من {يوم الفصل} [النبأ: 17] أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره وتقدم الكلام في الصور وقرأ أبو عياض {في الصور} بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضاً والفاء في قوله تعالى: {فَتَأْتُونَ} فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان كما في قوله تعالى: {أن اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلاً {أَفْوَاجاً} أي أمماً كل أمة بأمامها كما قال سبحانه: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71] أو زمراً وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها واستدل لهذا بما خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله ما قول الله تعالى: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} فقال: «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة والسلام: «عشرة أصناف قد ميزهم الله عز وجل من جماعة المسلمين فبدل صورهم فبعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها وبعضهم عمي يترددون وبعضهم صم بكم لا يعقلون وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم مصلبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتناً من الجيف وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الحكم وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر».
وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه.
وعليه قيل لابد من التغليب في قوله تعالى: {تأتون} إذ لا يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية.
{وَفُتِحَتِ السماء} عطف على {ينفخ} على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وعن الزمخشري أنه معطوف على {فتأتون} وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في (الكشف) وقال الشرط في حسنه أن يكون مقرباً من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيماً وتحقيقاً أقرب قريب منه ولو جعل حالاً على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجهاً وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين {فتحت} بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى: {فَكَانَتْ أبوابا} وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى: {إِذَا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] وقوله سبحانه: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضاً وجاء الفتح بهذا المنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان بمعنى صار ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبواباً حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأنه الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب وقيل الفتح على ظاهره والكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كان كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25] ونزل الملائكة تنزيلاً فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضاً فتح أبوابها ليس من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقاً لا يسدها شيء وفيه بعد وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملأ صدراً في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤل له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف.
{وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تمر مر السحاب} [النمل: 88] وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليس بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلاً وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلاً من الجبال والسراب يرى على شكل شيء وليس هو بذلك الشيء وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غباراً منتشراً كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فكانت هباءً منبثاً} [الواقعة: 5، 6] والمستفاد من (الأزهار البديعة في علم الطبيعة) لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلا صور حاصلة من انعكاس صور مرئية بعيدة جدًّا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأياً ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباءً منبثاً ويسوي الأرض يومئذٍ كما نطق به قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى
فيها عوجاً ولا أمتاً يومئذٍ يتبعون الداعي} [طه: 105، 108] وقوله تعالى: {يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} [إبراهيم: 48] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد النفخة الثانية وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى وقيل أن تسييرها وصيرورتها سراباً عند النفخة الأولى أيضاً ويأباه ظاهر الآية نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجاً وقد سيرت الجبال فكانت سراباً لكان ذلك محتملاً والظاهر أنها تصير سراباً لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}
شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم وقيل ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها وقيل ترصد فيه الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب إحداهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمنحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفاً وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه وفي (البحر) أن مرصاداً معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضاً اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار وقوله تعالى: {للطاغين} أي المتجاوزين الحد في الطغيان متعلق بمضمر إما نعت لـ: {مرصاداً} أي كائنا للطاغين وإما حال من قوله تعالى: {مَئَاباً} قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعاً ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة وجوز أن يكون خبراً آخر لكانت أو متعلقاً بـ: {مآباً} أو بمرصاد، وعليه قيل معنى مرصاداً لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعددت وكافأته بالخير أو بالشر ومآب قيل بدل من {مرصاداً} يلي جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل هو خبر ثان لـ: {كانت} أو صفة لـ: {مرصاداً} و{للطاغين} متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في {كانت مرصاداً} فتأمل.
وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر {أن جهنم} بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة الجزاء وتعقب بأنه ينبغي حينئذٍ أن يكون {أن للمتقين} [النبأ: 31] أيضاً بالفتح ومعطوفاً على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة الجزاء إلا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصاداً للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلاً.
وقوله تعالى: {لابثين فِيهَا} أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في {للطاغين} وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن على وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح {لبثين} بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابثين وقال أبو حيان: إن فاعلاً يدل على من وجد منه الفعل وفعلاً يدل على من شأنه ذلك كحاذر وحذر وقوله تعالى: {أَحْقَاباً} ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر.
وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن عمر وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا: إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا.
وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعاً «أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة مما تعدون وقيل أربعون سنة».
وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثاً مرفوعاً.
وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأياً ما كان فالمعنى لابثين فيها أحقاباً متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى وتتابع الأحقاب القليلة كذلك وقيل أن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاماً نعم قيل إنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقباً تاماً أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود وقوله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] إلى غير ذلك.
وإن جعل قوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} حالاً من المستكن في {لابثين} فيكون قيداً للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها {أحقاباً} منصوباً بـ: {لا يذوقون} قيداً له إلا أن فيه بعداً ومثله لو جعل لا يذوقون فيها إلخ صفة لـ: {أحقاباً} وضمير {فيها} لها لا لـ: {جهنم} لكنه أبعد من سابقه وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى وقول مقاتل: إن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30] فاسد كما لا يخفى وجوز أن يكون {أحقاباً} جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق وحقب العام إذا قل مطره وخيره والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالاً من ضمير {لابثين} وقوله تعالى: {لا يذوقون} صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولاً جملة مبتدأة خبر عنهم والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير والشراب معروف والحميم الماء الشديد الحرارة والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيها شيئاً ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماءً حاراً وصديداً.
وفي الحديث: «أن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاماً تقعقع» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم ** برد يصفق بالرحيق السلسل

وقول الآخر:
أماني من سعدى حسان كأنما ** سقتك بها سعدى على ظمأ بردا

فيكون ولا شراباً من نفي العام بعد الخاص وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرد النوم والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منه البرد البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً

أي وهو مجاز في ذلك عند بعض ونقل في (البحر) عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل وعن ابن عباس وأبي العالية الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من برداً إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل وقرأ غير واحد من السبعة {غساقاً} بالتخفيف.
{جَزَاء} أي جوزوا بذلك جزاءً فجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبراً آخر لـ: {كانت} ليس بشيء وقوله تعالى: {وفاقا} مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأياً ما كان فالمراد جزاء موافقاً لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون {وفاقاً} مصدراً منصوباً بفعل مقدر أيضاً أي وافقها وفاقاً وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء.
وقال الفراء: هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذٍ صفة لـ: {جزاء} من الخفاء.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة {وفاقاً} بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقاً لحاله.
وفي (الكشف) وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفاً بحال صاحبه كما لا يخفى.
وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم.
{وَكَذَّبُواْ بآياتنا} الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به {كِذَّاباً} أي تكذيباً مفرطاً وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مطرد شائع في كلام فصحاء العرب وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني: آلحلق أحب إليك أم القصار؟
ومن تلك اللغة قول الشاعر:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ** وعن حاجة قضاؤها من شفائيا

وقال ابن مالك في التسهيل أنه قليل وقرأ على كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف قال صاحب اللوامح وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففاً {كذاباً} بالتخفيف مثل كتب كتاباً فكذاباً بمعنى كذباً وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ** والمرء ينفعه كذابه

والكلام هنا عليه من باب {أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بآياتنا وكذبوا كذاباً أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون وأياً ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلاً منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلاً كذب الآخر حقيقة ويجوز أن تكون المفاعلة مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنىين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالاً بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها.
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون {كذاباً} بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالاً أيضاً وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قول طرفة:
إذا جاء ما لابد منه فمرحبا ** به حين يأتي لا كذاب ولا علل

وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفرداً صيغة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيباً كذاباً فيفيد المبالغة والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والإسناد فيه مجازي.
{وَكُلَّ شيْء} من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وقال أبو حيان أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره {أحصيناه} أي حفظناه وضبطناه وقرأ أبو السماء بالرفع على الابتداء {كتابا} مصدر مؤكد لـ: {أحصيناه} فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فأما أن يؤول أحصيناه بكتبناه أو كتاباً بإحصاء وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوباً في اللوح أو صحف الحفظة والظاهر أن الكلام على حقيقته وقال بعضهم الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلا فهو عز وجل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلا فالانضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لاحق بهم لأن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك وقال البعض الأوجه عند أن كل شيء منصوب بالعطف على اسم أن في {أنهم كانوا لا يرجون حساباً} [النبأ: 27] و{أحصيناه كتاباً} عطف على خبره والرفع على العطف على محل اسم ان والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقاً وعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع دماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضاً. انتهى ولا يخفى ما فيه من التكلف.
{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور وقيل الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً} [النبأ: 24] إلخ أي إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم ذوقوا فلن نزيدكم إلخ وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار فقال قول الله تالى فذوفوا فلن نزيدكم إلا عذاباً ووجه الأشدية على ما قيل إنه تقريب في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار وفيه من البعد ما فيه واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقاً للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى وقيل إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلاً في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوماً فيوماً وقيل لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى أشد عذاب والعذاب المزاد يوماً يوماً فيوماً من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل. اهـ.